احمد سعد عضو فعال
عدد الرسائل : 140 العمر : 94 محل الميلاد : مصر - المنصورة نقاط : 14 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 12/01/2009
| موضوع: التقدم الى الخلف ... الدكتور مصطفى محمود الأحد يناير 18, 2009 4:54 am | |
| حينما اكتشف الرجل الأوروبي البخار و الكهرباء، و صنع الصلب و القطارات و الطائرات، و أضاء المدن فأحال ظلامها نهاراً امتلأ شعوراً بالسعادة و العظمة.
و حينما وضع قدمه في أفريقيا السوداء نظر إليها نظرة السيد إلى ملايين العبيد المتخلفين المتأخرين، المتبربرين المتوحشين. و شعر بأن عليه واجب الأخذ بيد هؤلاء الحيوانات إلى نور المعرفة و العلم و الوصايا العشر.
و بين زنوج عراة حفاة وقف المبشر الأوروبي في ثياب نظيفة يقول لكل واحد: لا تسرق.. و نظر كل عريان بجواره يتساءل: نسرق ماذا؟ لا أحد يملك حتى خرقة على جسده، و الطير يمرح على الشجر لمن يصطاده، و الأرض مجاناً لمن يزرعها، و الفاكهة دانية لمن يقطفها.. نسرق ماذا و لماذا؟
أسهل على الجمل أن يدخل ثقب إبرة من أن يدخل الغني جنة الله.
و لكن من هو الغني؟ الذي يملك.. الذي عنده نقود أكثر.. الذي عنده سندات و عقارات أكثر. و لكن ليس بيننا من يملك أكثر و لا من يملك أقل. و لا نعرف ملكية. و لا نعرف نقوداً. و ليس بيننا من يملك سندات و عقارات. هذا عين التأخر و البربرية و الوحشية! سوف يصك لكم الرجل الأوروبي النقود. سوف يجعل بعضكم فقراء و بعضكم أغنياء. سوف يجعل بعضكم يملك و بعضكم لا يملك. و هكذا تنشأ بينكم الأحقاد فتعرفون معنى الوصايا العشر. و لكن ما بال الرجل الأوروبي نفسه لا يعمل بالوصايا العشر؟ لماذا يسرق خيرات الغابة و يشحنها في البواخر المتراصة على الشاطئ إلى بلاده؟ لماذا يقتل العبيد بالسخرة في المناجم؟ لماذا يتزوج واحدة و يزني بألف. و لماذا يكذب على نفسه و علينا و على الله؟!
و ظلت الحياة تسير في رتابة بين المتوحشين المتبربرين تحصدهم الأمراض، و تتحالف عليهم الملاريا و الحمى الصفراء، و الحيات و الأفاعي، و رصاص المستعمرين. و تولى الرجل الأوروبي مهمة قتل نفسه في حربين عالميتين. و تولى حصاد المدينة التي أقامها. كلما بنى هدم، و كلما أقام حطم.
و لكن الأدوات في يديه ظلت تتقدم من طائرات إلى صواريخ، و من كهرباء إلى ذرة. و ها هو ذا اليوم قد امتلأ شعوراً بالثقة، و قد ازداد تأكيداً أنه أصبح السيد بالفعل. سيد من؟!! سيد على الطبيعة و عبد لنفسه! و هو يزداد عبودية لهذه النفس كل يوم. تستهويه البضائع الاستهلاكية في الفاترينات، و تستعبده الثلاجة و الغسالة و العربة البويك، و الريكوردر، و الترانزيستور. و سيطرة البضائع الاستهلاكية و الترف الشخصي تفرض نفسها على بلد رأسمالي كأمريكا كما تفرض نفسها على بلد اشتراكي كروسيا.
و من أجل مزيد من الترف و البضائع الاستهلاكية لكل فرد، و من أجل السيطرة و التحكم في الآخرين سوف تقوم حرب ثالثة، فلم تعد المسألة مسألة مذاهب. و إنما حقيقة المسألة أن الإنسان لم يتقدم و إنما تأخر. و هو كل يوم يتأخر.
الأدوات في يديه هي التي تقدمت و تحول هو من صانعها إلى خادمها ثم إلى عبدها. لكن كل هذه البضائع الاستهلاكية ليست أكثر من لعب أطفال في فاترينة، و كل ما أحرزه الإنسان من تقدم هو تقدم شكلي.
و الإنسان في أثينا، منذ أكثر من ألفي سنة، أيام سقراط و أفلاطون و أرسطو كان أكثر تقدماً. و كان يعرف طريقه الصحيح إلى التقدم بالفعل. كان يبحث كيف يعرف نفسه، و كيف يتخلص من عبوديتها، و كيف يحقق الحرية، و كيف يحقق العدالة، و كيف يصل إلى معرفة الله. و كان كل واحد يناقش الآخر في حرية.
أما اليوم فكل واحد يطلق على الآخر الرصاص. و لا أحد يفكر كيف يعرف نفسه، و لكن كيف يشبع نهم تلك النفس الجشعة بلا حدود. و النفس تدفن شيئاً فشيئاً تحت ركام البضائع الاستهلاكية، يخنقها طمعها اللانهائي.
نحن نتأخر.
الأدوات في أيدينا تنمو في القوة باطراد حسابي كما تنمو الأموال تلقائياً في البنوك. و لكن التقدم ليس أن تنمو الأدوات، و إنما أن ينمو الإنسان. ليس أن يسيطر الإنسان على الآخرين، و إنما أن يسيطر على نفسه، على غضبه. ليس أن يمتلك الإنسان القوة، بل أن يمتلك الرحمة. ليس أن يفرض الشرق مذهبه على الغرب، و لا أن يفرض الغرب مذهبه على الشرق، و إنما أن ترحب الصدور ليقول كل واحد كلمته.
صحيح أننا الآن نركب صواريخ و نسير بسرعة، و لكن إلى وراء، و إلى تحت، و إلى خلف، و إلى دغل كثيف نعود فيه حيوانات أكثر افتراساً من كل الحيوانات.. حيوانات مخالبها ذرية و أنيابها نووية. مسوخ اختل فيها التوازن فأصبحت لها أبدان هائلة، و قلوب ضئيلة، و أرواح هزيلة.
الجنس البشري الآن هو الديناصور الجديد الذي سوف ينقرض. و اقرأوا التاريخ لتعرفوا كيف كان على الأرض منذ ملايين السنين حيوان هائل ضخم كالجبل، يحكم جميع الحيوانات، اسمه الديناصور، ثم انقرض و هلك. و السبب أنه كان قوياً جداُ و مغفلا.
بقلم الدكتور مصطفى محمود __________________
تعلم الايجابية .. ولا تكن سلبيا | |
|